الطبري..العالم المفسر والمؤرخ
محيط - مي كمال الدين
الطبري عالم وفقيه ومفسر ومؤرخ عاشق للعلم والمعرفة سعى دائماً ورائها، فلم يعرف في حياته سوى الدراسة والبحث والتعليم، والتأليف، قدم العديد من الكتب القيمة والتي يأتي على رأسها تفسيره للقرآن الكريم والذي قدمه بعنوان"جامع البيان في تفسير القرآن"، وكتابه التاريخي " تاريخ الأمم والملوك".
قال الإمام النووي عن تفسير الطبري " أجمعت الأمة على أنه لم يُصنَّف مثل تفسير الطبري"، كما قال عنه الإمام السيوطي : " وكتابه أجل التفاسير وأعظمها فإنه يتعرض لتوجيه الأقوال وترجيح بعضها على بعض، والإعراب والاستنباط فهو يفوق بذلك على تفاسير الأقدمين ".
النشأة
محمد بن جرير بن يزيد، كنيته أبو جعفر، ولد عام 839 م في آمل – طبرستان وإليها نسب، وتلقى فيها أول علومه، سعى نحو العلم أينما كان فتنقل بين مدن فارس يأخذ عن علمائها، فأخذ الحديث عن محمد بن حميد الرازي والمثنى بن إبراهيم الإبلي، كما أخذ التاريخ عن الدولابي، والفقه عن أبي مقاتل، ورحل إلى بغداد ليسمع عن عالمها أحمد ابن حنبل ولكن لم يتحقق ذلك لوفاته قبل أن يصل الطبري إليه.
رحلته العلمية
اتجه الطبري بعد ذلك إلى البصرة وسمع من علمائها الحرشي والقزاز والصنعاني وابن معاذ وأبي الأشعث، ومنها انتقل إلى واسط ثم إلى الكوفة، وقصد بغداد والتي عرفت كمقصد للعلماء ورجال الفكر فدرس القراءات على التغلبي، وتلقى فقه الشافعي من الزعفراني والأصطخري.
لم يرتو عطش الطبري ولهفته دائماً للعلم والمعرفة فانطلق إلى الشام وأقام في بيروت فترة يقرأ على العباس بن الوليد البيروتي برواية الشاميين، ومن الشام إلى مصر حيث واصل دراسة الشافعي على المرادي والمزني، وناقش علماءها.
بعد رحلة العلم التي خاضها الطبري قرر العودة مرة أخرى إلى بلاده فمكث بها لفترة، ثم مالبث أن انتقل لبغداد فقضى بها باقي حياته منقطعاً للتأليف والتدريس حتى وفاته.
وعرف عن الطبري تبحره في العلم، وتواضعه في حلقات تدريسه رحيماُ بطلابه، أخذ عنه العلم العديد من الطلاب الذين أصبحوا من الباحثين والفقهاء المجيدين.
تراثه العلمي
عاش الطبري حياته مسخراً للعلم والتأليف حتى قيل انه كان يكتب أربعين صفحة في اليوم فقدم مجموعة قيمة من المؤلفات أتى على رأسها كتابيه في التفسير والتاريخ واللذان أظهرا قدرته كمفسر ومؤرخ، نذكر أولاً كتابه في التفسير والذي جاء بعنوان "جامع البيان في تفسير القرآن"
ويبدأ الطبري كتابه بالمقدمة ثم القول في البيان عن اتفاق معاني آي القرآن ومعاني منطق لسان العرب، والقول في البيان عن الأحرف التي اتفقت فيها ألفاظ العرب وألفاظ غيرها من بعض أجناس الأمم، والقول في اللغة التي نزل بها القرآن من لغات العرب، ثم القول في بيان نزول القرآن من سبعة أبواب الجنة، والقول في الوجوه التي من قبلها يوصل إلى معرفة تأويل القرآن، والأخبار في النهي عن تأويل القرآن بالرأي، الأخبار في الحض على العلم بتفسير القرآن ومن كان يفسره من الصحابة، الأخبار التي غلط في تأويلها منكرو القول في تأويل القرآن، الأخبار عمن كان من قدماء المفسرين محموداً علمه بالتفسير ومن كان منهم مذموماَ علمه به، والقول في تأويل أسماء القرآن وسوره وآيه، القول في تأويل أسماء فاتحة الكتاب، والقول في تأويل الاستعاذة، القول في تأويل البسملة، ثم تفسير سور وآيات القرآن الكريم.
تاريخ الأمم والملوك
كما قدم كتابه في التاريخ "تاريخ الأمم والملوك" وهو واحد من أهم كتبه وينقسم إلى قسمان ما قبل الإسلام وما بعده، ورد بالقسم الأول إبليس وأدم، والأنبياء وأرخ للفرس والروم والعرب واليهود وتكلم عن أهم ملوكهم وأحداثهم، أما في القسم الثاني فتناول حياة الرسول "صلى الله عليه وسلم" وغزواته، ثم تاريخ الخلفاء الراشدين وفتوحهم وتتبع تاريخ المسلمين في الدولة الأموية والعباسية، وقد اعتمد على الكتب الصادرة قبله في مواد كتابه، إلا أن منهجه كان في التعويل على الرواة، فالمؤرخ في عرفه لا يصح أن يستند إلى المنطق والاستنتاج إلا قليلاً، وقد حرص على السند فيما ذكره معتمداً في ذك أحياناً على المراسلة، وفي قسمه الأول لم يرتب الأمور على السنين بينما في قسمه الثاني راعى ترتيب الحوادث ترتيباً زمنياً عاماً بعد عام، وقد حاكاه في هذه الطريقة فيما بعد ابن مسكويه وابن الأثير وأبو الفداء وخالفه ابن خلدون والمسعودي.
ومن كتبه الأخرى نذكر
كتاب ذيل المذيل – في تاريخ الصحابة والتابعيين وتابعيهم إلى عصر الطبري، اختلاف الفقهاء- في ذكر أقوال الفقهاء في كثير من الأحكام الشرعية، لطيف القول في أحكام شرائع الإسلام – بسط فيه مذهبه وفيه كلام في أصول الفقه والكلام والإجماع، بسيط القول في أحكام شرائع الإسلام – تناول فيه تسلسل الفقه في المدينة ومكة والكوفة والبصرة والشام وخراسان، وكتاب الطهارة والصلاة.
كتاب آداب القضاة – ذكر فيه ما ينبغي للقاضي أن يعمل به، وكتاب أدب النفوس الجيدة والأخلاق النفيسة – تناول فيه الورع الإخلاص الرياء إلخ...، كتاب القراءات وتنزيل القرآن – ذكر فيه اختلاف القراء في حروف القرآن، رسالة المسماة بصريح السنة – ذكر فيها مذهبه، كتاب فضائل أبي بكر وعمر.
اختلاف علماء الأمصار، التبصير – وهو رسالة إلى أهل طبرستان يشرح فيها ما تقلده من أصول الدين، كما بدأ بتصنيف كتاب تهذيب الآثار وأنجز جزء منه ولكن توفى قبل أن يتمه، وكتاب ترتيب العلماء.
تفسير الطبري
تفسير الطبري
روي عن الطبري أنه قال: استخرت الله وسألته العون على ما نويته من تصنيف التفسير قبل أن أعمله ثلاث سنين فأعانني.
اعتمد الطبري في تفسير القرآن الكريم على المأثور عن النبي "صلى الله عليه وسلم" وعلى أراء الصحابة والتابعين، وأضاف إلى التفسير بالمأثور ما عرف عن عصره من نحو ولغة وشعر، فاستشهد به كما رجع إلى القراءات وتخير منها، ورجح ما تخيره، واستعان بكتب الفقه فعرض كثيراً من آراء الفقهاء، كما استعان بكتب التاريخ، وما عرض لآراء المتكلمين وتحرى جهده أن تكون التفاسير مما يثق به، فلم يدخل في كتابه شيئاً من المشكوك فيه.
قال عنه الخطيب البغدادي "محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب كان أحد أئمة العلماء يُحكم بقوله ويُرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، فكان حافظا لكتاب الله، عارفا بالقراءات بصيرا بالمعاني، فقيها في أحكام القرآن، عالما بالسنن وطرقها صحيحها وسقيمها وناسخها ومنسوخها، عارفا بأقوال الصحابة والتابعين عارفا بأيام الناس وأخبارهم، وكان من أفراد الدهر علماً وذكاء وكثرة تصانيف قل أن ترى العيون مثله".
زهده وكبرياؤه
كان الطبري زاهداً في الدنيا لا يطمع في مال أو منصب قضى حياته من أجل العلم والتفقه والدراسة فلم يتزوج ولم يشغله شاغل عن علمه، كما كان عزيز النفس صاحب كبرياء يرفض أن يأخذ أجر عن كتبه التي يؤلفها، ويرفض قبول الهدية إلا إذا تمكن من ردها بأحسن منها، كما كان شجاعاً جريئاً في الحق.
رفض المناصب التي عرضت عليه حرصاً على علمه وخوفاً من أن تشغله عنه، وقد روى المراغي قائلاً: لما تقلد الخاقاني الوزارة وجه إلى أبي جعفر الطبري بمال كثير فامتنع من قبوله، فعرض عليه القضاء فامتنع، فعرض عليه المظالم فأبى، فعاتبه أصحابه وقالوا لك في هذا ثواب وتحيي سنة قد درست وطمعوا في قبوله المظالم فذهبوا إليه ليركب معهم لقبول ذلك فانتهرهم وقال قد كنت أظن أني لو رغبت في ذلك لنهيتموني عنه قال فانصرفنا خجلين.
كما عرف عن الطبري ورعه وحسن قراءته للقرآن الكريم وتجويده، حتى أن الناس كانوا يقصدونه ليصلون خلفه، وقد جاءت وفاته في بغداد عام 923م، بعد حياة حافلة زاخرة بالعلم والمعرفة والذي لم يكتفي بتحصيله ولكن أصر على تعليمه لغيره، وأصبحت كتبه كنزاً عظيماً ينتفع به الناس جميعاً.